آني سوليفان... بطولةٌ في الظلّ

 

لا تنقطع قصص العظماء عن أسماعنا وأعيننا، فنظلّ ممتنّين لمختلف الروّاد الذين أغنَوا حياتنا بقصدٍ أو عن غير قصد. ومهما تكرّرت أسماؤهم على مسامعنا، تبقى الدهشة سيّدة الموقف لمَن يُريد أن يتبصّر في طريقة تفكيرهم، أو مسار حياتهم، أو التحدّيات التي آثروا أن يمرّوا بها. كذلك هي "آني سوليفان"، المعلّمة العظيمة التي رأت في تلميذتها ما لم يره الآخرون وآمنت بقدراتها رغم كلّ الصعوبات لتُصبح التلميذة "هيلين كيلير" بعد جهدٍ جبّار إحدى الشخصيات المعروفة بتأثيرها وإنجازاتها في القرن العشرين

 

(صورة للمعلمة آني سوليفان على المقعد وهلين بجانبها. المصور: مجهول) 

 

 سمفونيات الاسبوع هادئة 

في يومٍ سعيد مِن مارس عام 1887 وصلت المعلّمة آني سوليفان إلى دار الكابتن كيلير في مهمّة يتوقّف عليها قرارٌ شديد الأهمّية. فإذا لم تنجح آني في مهمّتها مع هيلين - ابنة الستّ سنوات المصابة بالعمى والصمم، ستنتقل هيلين في تلك الحالة إلى ملجأ خاصّ لمَن هُم في مثل حالتها. كان أمل أمّ هيلين كبيراً، وكان الأب متشكّكاً. أمّا أخيها غير الشقيق فكان مستهزئاً، فالمعلّمة نفسها ضعيفة البصر

 

بالفعل، كانت آني سوليفان، في تحدٍ صعب. ولكن الظروف التي مرّت بها في طفولتها وفي صباها حتّى سنتها العشرين تلك لم تكن هيّنة هي الأخرى. ولدت آني عام 1866 في الولايات المتّحدة بعدما هاجر أبواها هرباً من المجاعة الكبرى التي اكتسحت إيرلندا. ودخلت آني نفق التحدّيات في الخامسة مِن عمرها عندما أصيبت بمرض في عينيها بقيت تُعاني مِن آثاره طول حياتها. أمّا المنعطف الشديد التي مرّت به في سنتها الثامنة فكان وفاة أمّها ليتخلّى أبوها عنها وعن أخيها بعد ذلك ويتركهما في مأوى للفقراء. وما حصل بعد انتقالهما إلى ذلك الملجأ كان المنعطف الأشدّ في حياتها لأنّها خسرت أخيها هناك في غضون أشهرٍ قليلة، فالملجأ كان مكتظاً وتعيساً على كافّة الأصعدة. وكان هذا الفراق المؤلم علامة فارقة في حياتها، إذ كان هذا الأخ كلّ عائلتها، أو ما تبقّى منها

 

كانت آني قويّة بما فيه الكفاية لتبحث لنفسها عن مخرج مِن نمط الحياة الكئيب هذا، فما أن بلغت الرابعة عشرة مِن عمرها حتّى أدركت أنّ التعلّم هو الشيء الوحيد الذي ستخرج بفضله مِن الملجأ. وعندما عرفت بقدوم لجنة تحقيق لتتقصّى عن أحوال المكان أخذت آني تتبعهم أينما مشوا حتّى استجمعت شجاعتها وطلبت مساعدتهم في تعليمها وإلحاقها بمدرسة. وبالفعل، بعد وقتٍ قصير كان لها ما أرادت ودخلت مدرسة "بيركنز" للمكفوفين

 

أظهرت آني التي لم تعرف القراءة ولا الكتابة وقتها ذكاءً وفطنة في التعلّم، فلحقت سريعاً بالتلامذة الذين سبقوها إلى مقاعد الدراسة. ومع أنّها عانت مِن سخريتهم بسبب خلفيّتها غير المعتادة إلّا أنّ ذلك زادها إصراراً ودفعها لتلمع في دراستها حتّى تخرّجت مِن المدرسة بتفوّق. ويشاء القدر أن تنتقل آني في هذه المرحلة إلى بيت الكابتن كيلير الذي أرسل إلى مدرسة "بيركنز" يطلب منهم المساعدة بتعيين مدرّسة خاصّة لابنته هيلين. كان التعامل مع هيلين في غاية الصعوبة لأنّها فقدت السمع والبصر في عمرٍ صغير تحت السنتين إثر مرضٍ ألمّ بها. وكان العثور على معلّمة فذّة هو الحلّ الوحيد أمام العائلة. ولم يجد المسؤولون في مدرسة "بيركنز" أفضل مِن آني لترشيحها لهذه المهمّة الخاصّة

 

في اللحظة الأولى التي "أظهرت" آني نفسها لهيلين، بدا لقاؤهما عاصفاً. تلقّفت هيلين حقيبة سفر معلّمتها ولم تتركها، وجرّتها جرّاً داخل البيت الذي تحمّل أصحابه كلّ شيء في سبيل إرضاء الفتاة الصغيرةـ منذ إصابتها، شفقةً عليها مِن ناحية ورغبةً في حياتهم الطبيعية مِن ناحية أخرى. لم تستطع آني الانتظار إلى اليوم التالي لتبدأ مهمّتها، بل شرعت فوراً بتعليم الصغيرة.

 

كانت كلمة "لعبة" بالإنكليزية هي الكلمة الأولى التي رسمتها آني على يد هيلين بلغة الإشارة لتفهم أنّ لعبتها الجديدة لها اسم، "كلّ شيءٍ له اسم". وسرعان ما لاحظت آني الذكاء الحادّ التي تتمتّع به الطفلة عندما أعادت هيلين رسم الكلمة بيديها بسرعة عجيبة. ولكنّ الذكاء وحده لم يكفِ بالنسبة إلى آني التي رأت أنّ تلميذتها تعوّدت على حرّية زائدة منحتها إياها عائلتها، وكان هذا التمرّد حائلاً بينها وبين التقدّم. لذا كان مِن الضروري أن تبحث آني موضوع تربية الصغيرة مع العائلة

 

فمن كان المتصرّف الحقيقي في البيت سوى هيلين؟ كان مسموحاً لها أن تُكسّر وتُهشّم وتضرب بدون عقاب، وكان مسموحاً لها أيضاً أن تمدّ أصابعها إلى صحون أفراد أسرتها وقت الطعام لتأكل كما يحلو لها بعيداً عن آداب المائدة، وفوق هذا كلّه كانت قطعة الحلوى هي "الجائزة" التي تُهدّئها عند نوبات الغضب. ولم تقبل آني بأيّ شكلٍ من الأشكال هذا الأسلوب فخاضت معركة شرسة لانتزاع الحقّ مِن ربّ الأسرة بأن تُصبح شريكة حقيقيّة في تربية هيلين. وخاضت معركة أشرس مع هيلين نفسها التي لم تتعوّد أن تتبع أيّ نظام أو تنصاع لأيّ شخص. ومع أنّ آني كانت تُريد السيطرة على هيلين في البداية غير أنّها لم تكن تريد تحويلها إلى فتاة عديمة الشخصيّة. ولم تقبل بأن تُهذّبها بطريقة لا تحترم ذكاءها. ومثلما علّمتها أن تقول "نعم" للأوامر في البداية كان مِن الضروري أن تصقل شخصيّتها وتمنحها فرصة الرفض مِن جديد.

 

وبعد أن استقرّت الأمور، بدأت هيلين "تُنصت" لمعلّمتها التي ثابرت على رسم كلمات الأشياء المحبّبة لها على يدها الصغيرة. كان الجميع يعتقد في السابق أنّ هيلين غير مدركة لمعاني هذه الكلمات المرسومة على اليد، حتّى بدأت بتهجئة كلمة "ماء" بلغة الإشارة عندما شعرت بالماء، وكانت تلك اللحظة البوّابة التي فتحت لهيلين العالَم المُظلم والمُغلق الذي عاشت بداخله. استطاعت آني أن تُعلّم هيلين 575 كلمة في ستّة أشهر بالإضافة إلى جدول الضرب وطريقة "برايل" للقراءة. كما نجحت هيلين في تعلّم لفظ الأحرف بوضع يدها على فم المعلّمة بينما تتكلّم وملاحظة  اهتزاز الأوتار الصوتية في الحنجرة

كانت هذه البداية فقط. بعد ذلك حلّقت هيلين في سماء العلم فدخلت مدرسة "بيركنز "ثمّ كلّية "رادكليف" لتتخرّج وتُصبح مِن بعدها مؤلّفة وكاتبة ومُحاضرة. وكان كلّ مَن يتعرّف عليها يُصاب بالدهشة لبلوغها هذه المرحلة المتقدّمة وهي فاقدة للسمع والبصر، وأصبحت مؤثّرة في مُحيطها وكان لها دورٌ كبير في تحسين فرص المصابين بالصمم والعمى وتوثيق حقوقهم في المجتمع وفي المؤسسات الأكاديمية. كانت آني ترافقها في كلّ تلك المراحل فرسمت على يدها المحاضرات ودعمتها في عملها الكتابي والاجتماعي. أصبحت رفيقتها حتّى فقدت بصرها تماماً، وهنا جاء دور هيلين للاهتمام بها فعيّنت لها سكرتيرة خاصّة لتُساعدها حتّى توفّيت آني عام 1935

 

كم كانت آني سوليفان عظيمة بصبرها وإيمانها لتُثابر مع هيلين بدون كلل ولا ملل بينما الجميع يؤكّد لها أنّ جهودها ستذهب سدى؟ كم كان سهلاً لو استسلمت واختارت الحلول السهلة بدون تدخّلها في تربية هيلين وتهذيبها؟ إنّها قصّة مُلهمة عن معلّمة جعلت مِن تلميذتها أيقونة لتصبح هي أيضاً جزءاً من الصورة

 

 

بعض الدروس المستفادة من قصة آني سوليفان

 

الإيمان القويّ بالنتيجة التي تسعى إليها شرطٌ أساسيّ في تحقيقها على أرض الواقع. آني بدأت مِن واقعٍ معيّن مع تلميذة صغيرة السنّ (6 سنوات) صعبة المراس وفاقدة لحاسّتين أساسيّتين لكنّها رأت مستقبلاً مشرقاً لتلميذتها وآمنت بأنّها تستطيع الخروج مِن العالم المظلم والمقفل الذي تقبع بداخله إلى عالمٍ أوسع وأرحب، وهو ما حصل بالفعل

 

في بعض الأحيان قد تتعرّف إلى أشخاص يُقيّمون إمكانياتك بحسب قوانينهم هم. كانت آني موضع سخرية مِن أقرانها في الدراسة الذين لم يتوقعوا مدى العِلم الذي ستصل إليه، وكانت جهودها مع هيلين غير مضمونة أبداً بحسب والد هيلين وأخيها أيضاً. أمّا هيلين فكان الحكم عليها بأنّها غير ذكيّة وغير نافعة لشيء. هذه التوقّعات لم تكن إلا أفكار وتوقّعات خاطئة لأنّ النتائج جاءت مناقضة تماماً لها. مثلاً العدّاء الإنجليزي الشهير "سير روجر بانسيتير" استطاع أن يتحدّى قاعدة فيزيائية وليس مجرّد رأي. كان هو العدّاء الأوّل الذي كسر تلك القاعدة التي تقول بأنّ الركض لمسافة ميل يستحيل أن يتمّ بأقلّ من 4 دقائق حتّى اليوم الذي أصبح فيه بانيستير أوّل عدّاء يقطع هذه المسافة بثلاث دقائق ونصف! ومِن بعده كسر هذا الحاجز أكثر من 20 ألف عدّاء. ليست كلّ قاعدة ثابتة، قد تكون أنت المثال الأوّل في كسر الحواجز والتغلّب عليها

 

استمرّت آني برسم لغة الإشارة على يد تلميذتها وثابرت على ذلك يومياً مع أنّها لم تكن متأكّدة مِن استيعاب هيلين لهذا الأمر. واستمرّت على تنظيم أسلوب حياة هيلين رغم معارضة البعض. وأدّى هذا الالتزام إلى نهوض هيلين مِن عالمها المُغلق. الاستمراريّة ضروريّة. فلا تترك الأمور المهمّة إلى الظروف أو المزاج

 

قد تكون الصدمات النفسية أو الجسدية واقعاً لا مفرّ منه. وعلى قدر ما هي مؤلمة تستطيع أن تجعل منها إلهاماً لنفسك ولغيرك مِن الناس. الصدمات بمثابة الأمتعة الثقيلة فانتبه كيف تتعامل معها، وحاوِل أن تستعملها وقوداً لك. كيف تعاملت آني مع الصدمات التي حدثت لها في صغرها؟ نعم آلمتها ولكنّها أيضاً أعطتها حافزاً لتُساعد غيرها. كيف تعاملت هيلين مع إصابتها الجسيمة؟ حاولت أن تبني عليها وأثّرت فيما بعد بمحيطها ليضعها التاريخ في مصافّ العظماء

 

شاركنا في التعليقات شو أكثر شي ألهمك في القصة ؟

،

 

:مراجع 

 The Miracle Worker فيلم للقصة باسم 

 

فيديو للمعلمة آني تشرح كيف تعلمت هلين لفظ الأحرف بوضع يدها على فم المعلّمة بينما تتكلّم وملاحظة اهتزاز الأوتار الصوتية في الحنجرة


 

 

 

 

Leave a comment