ويلما رودولف، إعصارٌ أتى بعد الشلل

 

لقّبها الفرنسيّون بالـ "اللؤلؤة السوداء" والإيطاليّون بالـ "الغزال الأسود"، أمّا اللقب العالمي الذي حظيت به ويلما رودولف في الألعاب الأوليمبية عام 1960 فكان "الإعصار" و"أسرع امرأة في العالم" بالإجماع

 

عام 1940 وضعت بلانش رودولف رضيعتها ويلما في ولادة مُبكرة جداً توقّع الأطبّاء بسببها ألّا تُكمل الطفلة ذات الوزن الخفيف (2 كغ) سنتها الأولى. ومع ذلك خالفت الطفلة تكهّنات الأطبّاء لتتخطّى عامها الأوّل وسط عائلتها الكبيرة المكوّنة مِن تسعة عشر أخٍ وأخت. رغم ذلك كانت ويلما تمرض كثيراً بسبب بنيتها الضعيفة، وعانت مِن النزلات الصدرية المتكرّرة، والالتهابات الرئوية والحمّى، حتّى ألمّ بها مرضٌ استدعى قدوم الطبيب إلى البيت لمعاينتها. تعرّضت ويلما التي كانت في الخامسة مِن عمرها وقتها لفيروس تسبّب لها بشلل الأطفال، وكان الفايروس قاتلاً في كثيرٍ من الحالات، وفي حالة ويلما عطّل الفايروس حركة رجلها اليُسرى. وبحسب طبيبها المُعالج وأطباءٍ آخرين كانت النتيجة حتميّة: لن تستطيع ويلما المشي أبداً في المستقبل

 

لم يرضخ الوالدان لهذه النتيجة. صمّم والدها الذي كان يعمل حمّالاً في سكّة الحديد أن تنال ويلما الرعاية الطبّية التي تستحقّها، ولو أنّها لم تكن متوفّرة بسهولة. ففي الأربعينيّات كانت العناية الطبّية للأمريكيين من أصول إفريقيّة محدودة جداً، وكان المشفى المتاح يقع على مسافة 80 كلم مِن مدينة كلاركسفيل حيث تسكن عائلة ويلما. وعلى مدى أسابيع كثيرة، ظلّت الأمّ تستقطع مِن وقت عملها في البيوت لتأخذ ويلما مرّتين كلّ أسبوع في تلك الرحلات المتعبة لتتلقّى العلاج الفيزيائي. في تلك الرحلات كانت الأمّ تُجدّد التزامها الكبير للسعي في شفاء ابنتها، وكثيراً ما كانت تُشجّعها وتقول لها أنّها –خلافاً لما يقوله لهم الأطبّاء – يُمكنها أن تمشي على رجليها إذا أرادت وعملت في سبيل ذلك. وفي المقابل كانت العائلة بأكملها حاضرة لاستكمال العلاج الطبيعي في البيت فكان أخواتها يتعاقبون لتدليك رجلها وتمرينها كلّ يوم

 

كلّ هذه الجهود أثمرت عن تحسّن كبير في حالة ساقها وفي حالتها الصحّية بالمُجمل فسمح لها الطبيب أن ترتدي دعامة فولاذية خاصّة، وكان ذلك القرار هو تذكرة انضمامها إلى المدرسة في سنّ السابعة، وقبل ذلك لم يُسمح لها بالدخول. ومع فرحتها بالانضمام إلى أقرانها عانت ويلما مِن عدم قدرتها على مشاركتهم في ألعابهم وتمريناتهم الرياضيّة، فاكتفت بمراقبتهم وظلّت تُحاول أن تُحرّك رجلها وتُمرّنها كلّما استطاعت، متحمّلةً في سبيل ذلك الكثير من الألم والانزعاج. وبالفعل أصبحت حركتها أسهل بفضل مثابرتها فخلعت عنها الدعامة بعد سنتين لترتدي حذاءً خاصّاً لتقويم العظام. وفي الثانية عشرة مِن عمرها أي بعد مرور سنتين أيضاً حصل ما لم يكن في الحسبان...فاجأت ويلما كلّ مّن عرفها بالسير على قدميها بسلاسة! كان الأمر مُذهلاً، أن تُصاب طفلة بالشلل ثمّ يأتي يومٌ تمشي فيه كأنّها لم تمرّ بأيّ صعوباتٍ في السابق

 

واستطاعت ويلما أخيراً مشاركة إخوتها ورفيقاتها في لعبة كرة السلّة التي عشقتها ولعبتها مراراً في خيالها قبل أن تنزل بنفسها إلى الملعب. كانت تلعب برشاقة لدرجة أنّها انضمّت إلى فريق المدرسة حيث لقّبها مدرّبها الرياضي هناك بالـ "بعوضة" نظراً لسرعتها في الجري. أمّا المدرّب الرياضي الآخر الذي انتبه إلى موهبتها فكان إد تمبل"، المدرّب في جامعة تينيسي الذي كان في زيارة إلى المدرسة يومها. ذلك النهار بدأت فيه حياتها تأخذ شكلاً جديداً إذ قرّر المدرّب أن يعتني بهذه "الجوهرة" فألحقها ببرنامج التدريب الصيفي بالجامعة، وسرعان ما لاحظ أنّ ابنة الرابعة عشرة تتمتّع بما يؤهّلها لمستقبلٍ رياضيّ ممتاز، فأخبرها أنّ باستطاعتها أن تكون عدّاة رائعة إذا أرادت. وبالفعل، عام 1956 نجحت ويلما بمساعدته في تمثيل الولايات المتّحدة في الأولمبياد الصيفي في ملبورن، أستراليا، ضمن فريق بلدها لترجع بميداليّة برونزيّة عن سباق الـ 400 متر في سباقات الميدان والمضمار. ونجحت أيضاً بمعاونة مدرّبها أن تدخل جامعة تينيسي بمنحة كاملة عام 1958 لتكون أوّل مَن يحظى بالتعليم الجامعي مِن أسرتها. وتابعت تدريباتها المكثّفة لتتأهّل للّعب في سباقات الميدان والمضمار ضمن فريق بلدها في الأولمبياد الصيفي عام 1960 في روما، إيطاليا

 

في الحرّ الشديد بدأت الفرق في اللعب، وويلما التي لوت كاحلها قبل يومٍ من المسابقة كانت مضطرّة أن تتجاهل ألمها وتركض كما لم تركض مِن قبل. أمّا روحها المعنويّة العالية فكانت مؤثّرة في رفيقاتها اللاتي قالت لهم مراراً وتكراراً "أخذت على عاتقي أن نربح ميداليّة ذهبيّة، أؤكّد لكم أنّنا سنحصل عليها". وبالفعل، تخطّت ويلما التوقّعات لتحصل على ثلاث ميداليّات ذهبيّة عن سباقات الـ 100 متر، والـ 200 متر، والـ 400 متر تتابعاً! بل هي تقريباً حطّمت الرقم القياسي في السباق الأوّل بركضها المائة متر خلال 11 ثانية فقط، إلاّ أنّه لم يُسجّل كرقم عالمي بسبب سرعة الرياح العالية ذلك اليوم. وكانت تلك المرّة الأولى التي تفوز فيها عدّاءة أمريكيّة بثلاث ميداليّات دفعة واحدة في التاريخ. وعادت ويلما إلى مدينتها لتجد حشداً ضخماً في استقبالها للاحتفاء بها وبإنجازاتها، وكانت تلك المرّة الأولى التي جمعت البيض والسود في احتفالية مثل هذه في تاريخ المدينة

 

سنة 1962 آثرت ويلما أن تترك الساحة الرياضيّة لتُصبح مدرّسة ومدرّبة رياضيّة، كما أسّست شركتها الخاصّة ومؤسّسة غير ربحيّة لدعم الرياضيّين الشباب في مسيرتهم وتشجيعهم على النجاح. أيضاً مثّلت ويلما بلدها كسفيرة للنوايا الحسنة في غرب إفريقيا الفرنسيّة، وكتبت مذكّراتها سنة 1977. سنة 1994 توفّيت ويلما إثر إصابتها بمرض السرطان لتترك لنا قصّة نجاح خارقة وأمثولة رائعة في تجاوز الصعاب

 

بعض الدروس التي تعلّمتها مِن هذه القصة 

 

البيئة الحاضنة والداعمة في الحياة هي بالفعل أروع مكان ينطلق منه الناجحون. مثلما صادفنا عامل البيئة في القصص السابقة، هنا أيضاً نلاحظ كم نعمت ويلما بمساندة عائلتها في فترة المرض والشلل. وليس شرطاً أن تكون البيئة مكوّنة مِن أقرباء فقط بل قد تُكوّنها الصداقات والعلاقات الداعمة أيضاً

 

مهما علا شأن العِلم، يبقى الإيمان متفوّقاً عليه. آمنت والدة ويلما بمقدرتها على السير مستقبلاً ونجحت في أن تقذف الإيمان نفسه في قلب ابنتها رغم الرأي العِلمي للأطبّاء باستحالة ذلك

 

آلية التفكير دائماً تُحدث الفرق. ولولا هذه الطريقة بالتفكير لما عملت ويلما بجدّيّة نحو أهدافها، مهما كانت تبدو بعيدة أو صعبة ولما وصلت إليها. في إحدى المقابلات اعترفت ويلما بأنّ نقطة البداية في كلّ سباق كانت تُشكّل تحدّياً لها بسبب ساقيها الطويلتين اللتين لم تُسرعا بما فيه الكفاية عند الانطلاق، ولكنّها استطاعت أن تتخطّى المتسابقات الأخريات في النهاية بفضل التركيز وآلية التفكير الصحيحة الداعمة

 

لا يهمّ إذا كانت البدايات تفتقد للتشجيع أو التصفيق مِن الآخرين، ولا يجب الاعتماد عليها و"الارتواء" منها حتّى لو ظهر المصفّقون والمشجّعون، الأهمّ أن يكون الاعتماد على الحافز الداخلي قبل أيّ شيءٍ آخر

 

   نختم القصة بمقولة لـ ويلما رودولف: اخبرني الأطباء انني لن استطيع السير ثانية. لكن أمي قالت لي انني
استطيع، فصدقت امي
 
،
:مراجع
،
 

أغنية هذا الإسبوع اكتشفتها مؤخراً للرائعة فيروز 

Leave a comment